“تراث اللاجئين”
“تراث اللاجئين” عبارة عن مشروع فني مبني على أبحاث، بدأته جمعية دار ضمن فعاليات “بينالي رواق الخامس” الذي عقد بين حزيران/ يونيو 2014 وحزيران/ يونيو 2016.
على مدار عامين متتاليين، دعيت المنظمات والأفراد والسياسيين وخبراء حفظ التراث العالمي والنشطاء والممثلين الحكوميين وغير الحكوميين للمشاركة في مناقشة ماهية التراث في يومنا الحالي. يحاول المشروع أن يبحث في مفهوم امكانية اعتبار مخيمات اللاجئين “مواقع تراثية” في حاجة إلى الاعتراف على أساس أهميتها الاستثنائية؟ المخيم يتم فهمه ووصفه بأنه حالة مؤقتة تم انشاؤه من أجل تفكيكه وتدميره بسرعة، ولكن كيف يمكننا إذن أن نفهم مخيمات اللاجئين الفلسطينيين والتي يبلغ عمرها الآن 70 عاما تقريبا، أقدم مخيمات للاجئين في العالم؟
ان اتمام ملف استمارة ترشيح المخيم كموقع “للتراث العالمي” لم يكن حقا هدفا لهذا البحث العلمي والعمل الفني. بل جاء استكمالا من اجل تحقيق ممارسة فهمية كان الهدف منها النظر في فشل هذه العملية. نحن نعلم جيدا حتمية فشل تنفيذ هذه العملية، ولكن كان لا بد من خوض التجربة حتى نواجه وبصوت عال التساؤلات والنقاط الرئيسية لهذا البحث. هذا الفشل الحتمي ليس مكفولا فقط بالعمليات والاجراءات المؤسساتية السابقة لتنفيذه، بل ايضا بسبب الاعتبارات السياسية على نطاق عالمي ومحلي فيما يتعلق بفهم المخيمات على انها “تراث”.
أقيمت المخيمات منذ البداية على الدمار الذي حل بفلسطين العام ١٩٤٨، وبهذا المفهوم تعتبر المخيمات “أماكن تاريخية” يتم تدميرها ثم بنائها من جديد باستمرار. كما يمكن القول بطريقة أو بأخرى بأن مخيمات اللاجئين عبارة عن إعادة لبناء القرى التي تم تدميرها إبأن النكبة، بالاضافة لكونها إعادة لتجميع الناس وخلق للروابط الاجتماعية الأصيلة في تلك القرى.
والمخيمات هي التجسيد الحقيقي للنضال الفلسطيني من أجل الوجود، ولكن يبدو أننا نعترف بأهميتها فقط عندما يتم تدميرها. فقط عندما تختفي عن الوجود. على سبيل المثال، عندما تم تدمير مخيم نهر البارد خلال المعارك التي دارت ما بين الجيش اللبناني والمسلحين الإسلاميين، طالب اللاجئون الفلسطينيون فورا بإعادة إعمار المخيم بشكل مطابق تماما للشكل الذي كان عليه في السابق، ولم يطالبوا بخيام يسكنوها بل بإعادة بناء منازلهم الإسمنتية التي شيدوها على مدى اعوام من التضحية. وحدث ذات الأمر بعد الاجتياح الإسرائيلي لمخيم جنين في العام ٢٠٠٢. وهنا تجلت أهمية المخيم وأهمية إعادة بناءه على الشكل الذي كان عليه قبل التدمير فقط عندما ضاع المخيم نتيجة لاعمال عنف عسكرية،علاوة على ذلك، كيف يمكننا ان نفهم مطالب لاجئي لبنان “بالعودة” إلى مخيم نهر البارد؟ أو ماذا كان يعني اللاجئون الفلسطينيون في سوريا عندما طالبوا “بالعودة” إلى مخيم اليرموك؟ ماذا يعني أن تطالب بالعودة إلى مكان لم يُعَد ليكون مكاناً دائماً أو ذو تاريخ؟
الإقرار بأن الحياة في المنفى ذات معنى تاريخي هي طريقة لفهم اللجوء ليس فقط كنتيجة ساكنة لحالة مطلقة من العنف، بل أيضاً هي طريقة للنظر إلى اللآجئين على أنهم جزءا من التاريخ وصانعين له وليسوا مجرد ضحايا فيه. إن الإقرار بأن المخيم هو موقع للتراث في حقيقة الأمر يشكل طريقة مثلى لتجنب الوقوع في فخ العيش في الماضي والإفراط في تسليط الضوء على المستقبل مع الإستمرار في إنكار الحاضر بشكل شبه تام. عوضا عن ذلك، فان وجهة النظر تلك تتيح المجال بأن يكون المخيم موضوعا سياسيا تاريخيا معاصرا، وكما أنها تتيح امكانية النظر إلى الإنجازات التي تمت في الحاضر ليس فقط كتجسيد لحق العودة ولكن كخطوة نحوها. إن الاقرار والاعتراف بتراث المخيم وتاريخه يعني الاعتراف بالوضع الحالي وبجريمة النكبة وبالتالي يؤدي إلى صياغة حق العودة بشكل فعلي.
(تحديد الملكية (الجزء الأول
1.أ ) البلد
1.ب) المحافظة
محافظة بيت لحم، الضفة الغربية
1.ج) إسم الملكية
مخيم الدهيشة للاجئين
هامش أو حاشية (يُعتبر ترشيح مخيم الدهيشة للاجئين مثالًا على الترشيح المتسلسل الذي يضم 59 مخيماً للاجئين الفلسطينيين في بلاد الشام).
1.د) الإحداثيات الجغرافية إلى أقرب ثانية
31°41′38.47″N 35°11′02.96″E
1.هـ) الخرائط والخطط التي تبين حدود الممتلكات المرشحة والمناطق العازلة.
الخارطة 1.1 خريطة 59 مخيما للاجئين في بلاد الشام
https://www.dropbox.com/s/gg613mww95maqrp/59Camps.gif?dl=0
الخارطة 2.1 والتي تبين مكان بيت لحم في المنطقة
https://www.dropbox.com/s/w7yxib1g5jle0ov/Region%20Mapok.pdf?dl=0
الخارطة 3.1 مخيم الدهيشة والمناطق العازلة
https://www.dropbox.com/s/nkn51onvup55z03/Dheisheh%201-10000.jpg?dl=0
الخارطة 4.1 تصوير جوي
https://www.dropbox.com/s/b7bn2yyegrrcv67/border.jpg?dl=0
الخارطة 5.1 حدود الملكية المرشحة
https://www.dropbox.com/s/pbtef83ko74alpb/Dheisheh-1.pdf?dl=0
1.و) مساحة الممتلكات المرشحة (هكتار) والمناطق العازلة المقترحة
مساحة الممتلكات المرشحة: 31 هكتارا
المنطقة العازلة: 186.6 هكتار
المجموع: 217.6 هكتار
1.ز) وصف حدود الممتلكات المرشحة
بالإمكان تعريف مخيم الدهيشة للاجئين من خلال الحدود الرسمية التي وضعتها الأونروا عند تأسيس المخيم في عام 1949. أُنشئ مخيم الدهيشة في الأصل كملجأ ل 3400 فلسطيني ينحدرون من أكثر من 45 قرية قائمة في غربي مدينة القدس ومحيط مدينة الخليل وبالتالي فإن حدود المخيم في عام 1949 هي أثر وشهادة على النكبة.
تُستثنى مخيمات اللاجئين من مجموعة الحقوق التي تمنحها الدول المضيفة لمواطنيها مع العلم بأن السلطة الفلسطينية لا تتمتع بالسيادة الكاملة على الأرض التي تُقام عليها الدهيشة؛ من الناحية العملية ما زالت هذه الأرض مستأجرة للأونروا من قبل الحكومة الأردنية. وبالتالي، فإن حدود المخيم ليست مجرد عنصر مادي ورمزي، بل تُمثل امتداد المخيم خارج حدود الدولة والذي يُعتبر بالفعل حالة سياسية استثنائية؛ مقاطعة خارج حدود الدولة (an enclave in a quasi-state territory). يعتبر اللاجئون الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة السلطة الفلسطينية “سلطة مستضيفة”، مثلما ينظر لللاجئين الفلسطينيين في بيروت إلى دولة لبنان.
على الرغم من أن اللاجئين الفلسطينيين في بيت لحم لا يصوتون في الانتخابات المحلية أو الوطنية، فإنهم يؤثرون بشكل غير رسمي على السياسة المحلية والوطنية ويشغلون مناصب داخل السلطة الفلسطينية. لا توجد بلدية في المخيم، لكن مع بداية تسعينيات القرن الماضي ومع تشكيل السلطة الفلسطينية، بدأت المخيمات بتشكيل لجان شعبية تعمل على غرار البلديات. تتمثل مهمة الأونروا في تقديم الخدمات للاجئين الذين يعيشون داخل المخيم وخارجه، ولكنها أيضاً تتدخل في إدارة المخيم. إذن حدود المخيم أيضا تعبر عن استثنائية الإدارة الداخلية.
على مدى العقود السبعة الماضية، عارض اللاجئون أي عمل يمكن أن يمحو حدود المخيم ويخلطه في المدينة خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى تعميم الظلم السياسي ويقوض حقهم في العودة. وبالتالي فإن حدود المخيم هي المكان الذي يفتح أفقاً سياسياً ويصل سكانه بمكانهم الأصلي. مع ذلك، فقد اضطر مخيم الدهيشة إلى النمو، حيث بلغ عدد السكان الحالي ما يقارب 15 ألف نسمة. وقد تمكن السكان، من خلال الحفاظ على الحدود وإدارتها، من التوسع خارج حدود المخيم الأصلية مع الحفاظ على هويتهم كلاجئين. مدينة الدوحة وضاحية الشهداء منطقتان عازلتان للدهيشة تم بناؤها من قبل اللاجئين.
https://www.dropbox.com/s/v0ke4n7cw0ccmf7/10.%20the%20municipality.JPG?dl=0
1.ح) وصف حدود المناطق العازلة المقترحة
مدينة الدوحة
في بعض أجزاء المخيم، تتضاءل حدود المخيم بسبب امتداد نسيجها المبني إلى مناطق أخرى. فاللاجئون الذين يعيشون في منطقة الدوحة المجاورة، على سبيل المثال، يعتبرون المخيم مركزا للحياة الاجتماعية والسياسية. ويرون أن المخيم أقرب إلى أوطانهم وأكثر ارتباطا بحقهم في العودة إلى القرى الأصلية من حيث نزحوا خلال النكبة من حيث يعيشون الآن.
ابتداء من السبعينات، شرع اللاجئون من الدهيشة الباحثين عن مزيد من الخصوصية أو مساحة أكبر في الانتقال إلى الدوحة. ونتيجة لذلك، سحبت بلدية بيت جالا الخدمات التي كانت تقدمها إلى المنطقة. وقد أنشئت الدوحة رسميا كبلدية مستقلة في عام 1997، حيث تمكنت في هذه المرحلة من تقديم الخدمات لسكانها. في عام 2004 أعيدت تسمية الدوحة بعد دولة قطر، التي قدمت منحة كبيرة لتوسيع الطريق الرئيسي الذي ربط البلدةة الجديدة بمدينة بيت لحم.
سكان مدينة الدوحة هم في المقام الأول لاجئون قادمون من مخيمات مختلفة من جنوب بيت لحم. أقل ازدحاما من الدهيشة، “مدينة اللاجئين” هذه تفتقر إلى العلاقات الاجتماعية الموجودة في المخيم. أعرب الحاج نمر، عمدة الدوحة، عن العلاقة بين المخيم والدوحة بهذه الشروط:
عندما ادخل في أزقتها، وفي حاراتها ينتابني شعور مختلف، والذكريات والقصص الي كنا عايشينها في المخيم، يعني شيء بيشدني اكثر للدهيشة من الدوحة، بالرغم من انو الي اكثر من 25 سنة ساكن في الدوحة، وشبكة العلاقات الواسعة، والي هي نفسها هاي الشبكة الي وصلتني للمنصب الي انا فيه اليوم كرئيس لبلدية الدوحة، لكن لما بدخل الدهيشة بشعر بشعور آخر. الناس الي الي في الدهيشة هم نفسهم الي في الدوحة، لكن المكان ونمط الحياة بيختلفوا. انا سلوكي بيتغير لما اكون في الدهيشة، بتعامل بطريقة تختلف مع الناس. التفاعل مع الأحداث في الدهيشة أقوى من التفاعل مع الأحداث نفسها في الدوحة.
https://www.dropbox.com/s/u6okqi8fwicxymv/07.%20the%20suburb.tif?dl=0
ضاحية الشهداء
امتداد آخر للمخيم في المنطقة المحيطة له ايضا هي ضاحية الشهداء. بدأت المنازل في الظهور لأول مرة على الأرض في بداية التسعينيات بحيث تمت خدمتها في البداية من قبل بلدية إرطاس القريبة. في عام 2005، قامت إرطاس بمسح 210 قطعة أرض على مساحة إجمالية قدرها 162 دونما بهدف إدراج المنطقة داخل حدود البلدية، ولكن بعد رفض سكان القرية تم سحب خدماتها لضاحية الشهداء. ثم تم جلب الكهرباء من قبل الكابلات المعزولة من الدهيشة. وفي 26 تشرين الثاني / نوفمبر 2012، قدمت لجنة الشهداء المحلية طلبا رسميا بإدراجها ضمن اختصاص اللجنة الشعبية في الدهيشة. لا يزال الطلب معلق. وعلى غرار الدوحة، واجه سكان الضواحي مسألة هوية لجوئهم لحظة خروجهم من المخيم. على الرغم من أن المزيد من اللاجئين يعيشون خارج الدهيشة أكثر من الداخل، فإن الخوف من المغادرة هو الخوف من التطبيع، والخوف من الحياة الطبيعية ونسيان حق العودة.
المحادثة التالية بين أحمد وقصي، وهما لاجئان نشأآ في مخيم الدهيشة ولكن لم يعدا يعيشان فيه، وهما يعكسان الآثار والمسائل المتعلقة بهوية اللاجئين والعيش خارج المخيم أو داخله.
حاشية او هامش ( أحمد اللحام وقصي أبو عكر، ضاحية الشهداء مخيم الدهيشة: جامعة في المخيم، 2012).
أحمد: انني متجه لمرحلة جديدة في حياتي بالانتقال للسكن خارج المخيم، ولدي العديد من التساؤولات، أرغب في الاستفسار عنها من شخص سكن خارج المخيم، وله علاقة قوية بالمخيم، ما هو السكن خارج المخيم؟
قصي: أسهل الاجوبة يمكن ان يكون: السكن خارج المخيم هو مثل السكن في فندق. أمضيت حياتي في المخيم وذلك لعدم توفر العديد من الأشياء في مدينة الدوحة، وعلى المستوى الشخصي، فإنني لا أعرف جيراني هناك بشكل جيد، ولا استطيع تمييزهم حتى، ولا يوجد حديث بيننا سوى في المناسبات الاجتماعية، والتي تتطلب دعوة الجيران، ولا امضي وقتي في الدوحة، فأنا اذا غادرت المنزل، آتي لمخيم الدهيشة.
أحمد: ما الذي جعل المخيم جذاباً؟ هنالك مدينة بيت لحم والتي يوجد فيها العديد من الأشياء الجذابة، لماذا تبقى في المخيم؟
قصي: لا أعلم، ربما بسبب العلاقة التي بنيتها خلال فترة سكني في المخيم من خلال المدرسة، وإبداع والفينيق، وعملي داخل المخيم. فشبكة علاقاتي توجد في المخيم، وفي الدوحة لدي شعور بأن كل شخص يعيش عالمه الخاص، إلى حد ما، وليس بشكل كامل، ولكن ليس كمخيم الدهيشة، كمثال، يمكنني أخذ محل فلافل، لا يوجد لو محل فلافل واحد في مدينة الدوحة، واذا وجد محل خلال فترات، من فترة فإنه لا يستمر سوى لشهرين، ويغلق بسبب عدم ذهاب الناس للشراء منه فحتى غير اللآجئين يأتون إلى الدهيشة.
أحمد: هل هناك شيء عاطفي له علاقة بالموضوع؟ أم هو فقط للحصول على أشياء من المخيم؟
قصي: بالطبع هنالك جوانب عاطفية، عندما أعرف عن نفسي فإنني أقول بأنني من مخيم الدهيشة، وحتى إن كنت اعيش في مدينة الدوحة، والناس تعرف الدهيشة على أنها الصمود والوعي، فتشعر بأنك قادم من موقع قوي، ولكن عندما أعرف عن نفسي بأنني من الدهيشة ويقول لي أحدهم “لا، أنت لا تعيش في المخيم” فإنها تمثل إهانة بالنسبة لي.
أحمد: لماذا؟ أنت لا تعيش في مخيم الدهيشة؟
قصي: أنا لا أعيش في مخيم الدهيشة، ولكنني من مخيم الدهيشة.
أحمد: لم أفهم ذلك.
قصي: نمط الدهيشة، كيفي تجري الأمور، على سبيل المثال، في الدوحة على طول فترة سكني لم أرى مسيرة ضد أي شيء، لم يستطيعوا التجمع حول شيء ما عدا مسيرات غلاء المعيشة، وحتى في هذه سارت المسيرة نحو مدخل مخيم الدهيشة.
أحمد: هل يمكنك القول بأن المخيم هو فكرة وليس مجرد مكان؟
قصي: نعم بالطبع. الفكرة ليست محدودة. هل بإمكان شخص العيش في المخيم كما قد يعيش في مدينة باريس؟ أو العكس؟ ما هو الشيء الذي يثير مخاوفك في تجهيز نفسك للعيش خارج المخيم؟
أحمد: هو ليس خوف، هو شيء له علاقة بالذكريات، فالانسان في أي مكان في العالم، وليس فقط في فلسطين، ذكرياته هي وطنه، وبالتالي فالمكان الذي لك فيه ذكريات فهو وطنك، وذكرياتي في المخيم فقط، وليست في بيت عطاب (قريتي الأصلية)، وليست في بيت لحم، وليس في أي مكان آخر، وبالتالي فإنني اخاف ان افقد هذه الذكريات وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على حياتي.
2.أ. التاريخ والتطور
تم تأسيس الأونروا (وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى) بموجب القرار رقم 302 (رابعا) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 8 كانون الأول 1949. حيث أكد القرار على مواصلة الصليب الأحمر عمله في توفير الخدمات الأساسية للاجئين حتى آذار/مارس 1950 ومن ثم تتحمل الأونروا المسؤولية عن تقديم المساعدات الإنسانية للاجئين الذين يزيد عددهم عن 700000 فلسطيني لاجئ. مع مرور الوقت على اللآجئين الفلسطينيين وعدم عودتهم إلى قراهم، أصبحت هذه الخيام والمخططات التي نصبوها في الأصل غير ملائمة للعيش. وبالفعل، شرعت الأسر بتعديل بيئتها للتثبيط المستمر، مثل حفر القنوات حول خيامهم لحماية أرضياتها من التحول إلى الطين بسبب أمطار فصل الشتاء البارد.
بدأت الأونروا في عام 1951 بتدشين وحدات سكنية أكثر صلابة يشار إليها عادة داخل مخيمات اللجوء بإسم “غرف المأوى”. أعطيت كل أسرة غرفة واحدة تم تحديد حجمها استنادا إلى عدد أفراد الأسرة الواحدة ضمن مساحة لا تزيد قاعدتها عن متر واحد مربع للفرد، وتم بناء “غرفة مأوى” منفردة للأمهات العازبات او النساء غير المتزوجات اللواتي بقين وحدهن بعد الحرب. تراوحت بيوت الوكالة هذه في الحجم من 3*3 م مربع إلى 5*3 م مربع، وغالبا ما كانت تقسم من الداخل لخلق وجود أو تأثير غرفتين. كانت جميع هذه الغرف تقع بالقرب من بعضها البعض وتشترك كل خمسة عشر منها حمام واحد. في ظل وجود أكثر من 470،000 شخص ممن يتلقون المساعدات من برنامج المأوى، بدأت المخيمات بين فترة 1955-1964 بإتخاذ شكل ومنطق تنظيمي يختلف كثيرا عن الطريقة التي بدأت بها، مع العلم أن غرف المأوى بنيت لخدمة خمس سنوات فقط مرت دون حل سياسي.
وهكذا اضطر اللاجئون مرة أخرى إلى التكيف مع الظروف التي وجدوا أنفسهم بها وبدأوا في تطوير بيوت تم بناؤها ذاتيا. وكان من ابرز العوامل الهامة في ظهور هذا النوع من البناء هو حقيقة وجود المخيمات بالقرب من المراكز الحضرية، الأمر الذي سهل الفرص الاقتصادية والتبادل فيما بينها. في أوائل الستينيات، بدأ مديرو الأونروا في مناقشة حقيقة أن المخيمات كانت خارجة عن السيطرة وبدأت تشبه الأحياء الفقيرة. ونتيجة لذلك، كانت هنالك محاولة للسيطرة على بناء هذه المساكن التي يتم بناؤها ذاتيا وليس منعها. أغلق البرنامج القائم على المأوى في الستينيات وحل محله برنامج للمساعدة الذاتية، من شأنه أن يوفر مواد البناء والمساعدة النقدية للاجئين بدلا من ذلك.
حلت النكسة الفلسطينية عام 1967 وأدت إلى تشريد وطرد أفواج جديدة من الفلسطينين لجأ غالبيتهم إلى الاردن ودول أخرى. احتل الجيش الاسرائيلي هذا العام الضفة الغربية وقطاع غزة بالاضافة إلى صحراء سيناء وهضبة الجولان السورية. أدى ذلك إلى اعادة تشكيل هيكل المخيم بشكل كبير كما ادى إلى تغيير في تصور اللاجئين لفكرة العودة. بعض اللاجئين الذين استطاعوا شراء قطعة أرض خارج المخيم بدأوا حياة في المدينة. انخفض عدد سكان مخيم الدهيشة مما أدى إلى توفير مساحة أكبر لمن بقي داخل المخيم. تم تخصيص مساحات من الأراضي في مفاوضات لا حصر لها بين الجيران، وتم بناء حدود لترسيم ممتلكات كل عائلة. أدت هذه المفاوضات المعقدة حول المكان والهوية داخل المخيم ذاته ومع المدينة إلى خلق منتديات في الشوارع والأحياء.
ما بعد 1993، وفي إطار ما يسمى ب “عملية السلام” التي أدت لاحقا إلى إنشاء سلطة فلسطينية مؤقتة، ازداد تهميش حق العودة تحت ضغط الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي لم تكن على استعداد للإقرار بمسؤولية إسرائيل في النكبة الفلسطينية. في الوقت نفسه، أدى انسحاب الجيش الإسرائيلي من معظم المناطق الحضرية الفلسطينية إلى تهيئة الظروف التي جعلت بعض مخيمات الضفة الغربية مجتمعات مستقلة نسبيا ذات طابع اجتماعي وسياسي مستقل.
٢.ب وصف الملكية
دار الصيفي
وُلد خالد الصيفي عام 1961 وترعرع في مأوى(غرفة الوكالة) ذا غرفة واحدة، حيث كانت تُستخدم كغرفة نوم وغرفة معيشة ومطبخ وحمام. بعد نُزوح جيرانهم إلى الأردن عام 1967، أخذت عائلة الصيفي غرفتهم المهجورة حيث كان مفتاحها معهم من قبل. ثم وفي وقتٍ لاحق من ذلك العام تمكنوا من الحصول على غرفة أخرى بعد عملية مفاوضات طويلة ومتوترة مع جيرانهم. بعد ذلك رسمت عائلة الصيفي حدود الغرف الثلاثة والأرض تحتها باستخدام صف حجري. ووصف خالد هذهِ اللحظة بأنها بداية حياة أكثر فردانية، والتخلي عن البُعد الجماعي مقابل ظروف معيشية أفضل.
في عام 1974، افتُتِح مصنع للطوب الاسمنتي بالقُرب من المخيم. قدم مؤسس المصنع تسهيلات مالية للاجئين حيثُ كان هو نفسه لاجئاً من مخيم الدهيشة. وبهذه الطريقة، تمكنت عائلة الصيفي من إضافة غرفتين صغيرتين إلى غرفة الوكالة الأصلية، وتركت اثنين من الملاجئ الأخرى للاضمحلال. حياة خالد كانت نشطة سياسياً تداخلت باعتقال متعددة. خلال فترة سجنه في الانتفاضة الأولى، واصلت زوجته أمل، العمل على المنزل، وأضافت غرفتين إضافيتين في الطابق الأرضي.
بعد عودته من السجن، أضاف خالد سقفاً اسمنتياً إلى المنزل لمنع دخول المياه في فصل الشتاء، وسع الهيكل أفقياً باستخدام أعمدة وأضاف سقفاً آخر للسماح بامكانية التوسع المستقبلي. في عام 2002، وبعد الانتفاضة الثانية، وُضِع المخيم تحت حظر التجول العسكري لعدة أشهر. وبسبب عدم تمكنهم من مغادرة المخيم، رأى السكان أن البناء شكل من أشكال المقاومة للاحتلال العسكري. واستخدم خالد هذه الفترة لإنهاء الطابق الأول والثاني.
كان هناك عنصر واحد شَهِد عملية التحول المعماري برمتها، وهو شجرة نخيل وحيدة عند الباب الأمامي. في حين أنه لا يمكن التأكد بشكل قاطع، من المرجح أن تكون هذه الشجرة ولدت من بذور ثمرة تمر أُلقيت على الأرض في الخمسينيات، عندما قدمت الأونروا التمر في صناديق الغذاء.
دار عودة
بعد النكبة عام 1948، لجأت عائلة ناجي عودة إلى بيت ساحور، وهي بلدة قريبة من بيت لحم. وبعد أن واجهوا التهميش الاجتماعي والإقصاء من جيرانهم، انتقلوا إلى الدهيشة عام 1959. تألفت العائلة من ثمانية أفراد يعيشون في غرفة واحدة مساحتها تسعة أمتار مربعة حتى أواخر الستينيات. كان دخلهم محدوداً بسبب مرض الأب وإصابته بالشلل لاحقاً. في عام 1973، توفي الأب وغادر الأخ الأكبر فتحي إلى لبنان للدراسة. كان ناجي، الأخ الأوسط، مشغولا بالعمل السياسي وقضى الكثير من الوقت في السجن، وكان الأخ الأصغر راجي، أصغر من أن يساعد في دخل البيت. وبالتالي اضطرت الأم للقيام بالدور الأكبر في تمويل الأسرة وتنمية المنزل٦.
في عام 1968 بدأت والدة ناجي تعمل عاملة نظافة في مستشفى الطب النفسي بجانب الدهيشة. مع دخلها، كانت الأسرة قادرة على بناء غرفة جديدة للمطبخ. وقد شُيدت من جدران طوب إسمنتي وسقف من الصفائح المعدنية التي طارت في فصل الشتاء إلى أعلى الجبل. مع مرور الوقت بدأ الطوب الاسمنتي بالانهيار وإتلاف مؤنهم من الأرز والدقيق والزيت. وبحلول نهاية السبعينيات، بدأ ناجي في بناء مرآب\كراج\مخازن باتجاه الشارع ليحتل الأرض التي كانت تخدم في السابق المرحاض العام. كما قام بإعداد الأساسات لوضع مخطط لمنزل جديد.
أن كفاح العيش في فقر وبناء فقط ما يستطيعون تحمل تكاليفه هو واقع مشترك بين العديد من الأسر – حيث كانت هذه المعاناة ما جمعهم واستطاعت تشكيل روابط اجتماعية. وعلاوة على ذلك، ونظراً لأن البناء يعتمد على الموارد المتاحة، فإن المعارف والصلات الاجتماعية أدت دوراً هاماً في الحصول على مواد البناء والعمل بأسعار معقولة. كان الأصدقاء والجيران غالباً ما يساعدون في البناء.
تزوج ناجي من سُهير عام 1987، وعاشوا معاً في المنزل مع والدة ناجي وشقيقه الأصغر راجي. في عام 1993 مع دخل مستقر جاء من وظيفة ناجي في منظمة غير حكومية محلية وسهير في مستشفى، تمكنوا من إضافة طابقين وإنهاء المنزل.
مركز الفينيق الثقافي
يقع مركز الفينيق الثقافي على قمة تل يطُل على المخيم، وهو مبني على موقع استراتيجي مع تاريخ طويل من الاضطهاد. احتل الجيش البريطاني الموقع لأول مرة خلال الانتداب البريطاني، ثم الجيش الأردني وأخيراً الجيش الإسرائيلي. وعندما انسحب الجيش الإسرائيلي جزئياً من الضفة الغربية وغادر الموقع في أوائل التسعينيات، كانت مطالب المستثمرين تدعو لبناء موقع جذب سياحي أو سجن. كتب مجتمع اللاجئين إلى الرئيس ياسر عرفات رداً على ذلك، مدعين بذلك أن الموقع ينتمي إلى المخيم باعتباره المساحة التي تشتد الحاجة إليها للتخفيف من كثافته العالية. وبعد بضعة أشهر من موافقة عرفات، ابتدأ بناء المركز الثقافي.
بعد بناء الجدران حول المحيط، تم بناء قاعة الزفاف ابتداء من عام 1996 من قبل المجتمع المحلي. وتعطلت أعمال البناء بسبب الانتفاضة الثانية واعتداء الجيش الإسرائيلي على الموقع. بعد أن غادر الجيش الإسرائيلي مرة أخرى، قام اللاجئون بإصلاح المبنى واستمروا في البناء، تم إضافة صالة رياضية، دار للضيافة ومكتبة إدوارد سعيد. في هذه اللحظة قرر الناس تسمية المركز الثقافي “الفينيق” على اسم الطير الأسطوري، طائر الفينيق، الذي يرمز إلى ولادة جديدة من رماده. تم افتتاح الحديقة في عام 2004 مما أعطى سكان الدهيشة والبلدات القريبة فرصة لقضاء بعض الوقت مع أطفالهم. في عام 2008، تم إضافة قاعة زفاف ثانية إلى الموقع في الطابق العلوي من الحديقة، حيث يمكن عقد الاجتماعات والمؤتمرات أيضا.
يوضح الفنيق القيم الاجتماعية والثقافية الغنية للاجئين في المنفى، ويفتح في الوقت نفسه أشكالاً جديدة من التفكير والنضال من أجل حق العودة. فالخطاب بشأن حق العودة يميل إلى إلزام اللاجئين بنسيان ونبذ الثقافة المنتجة خلال فترة نفيهم. ومع ذلك عندما يُطلب من اللاجئين تدمير حياتهم في المنفى وشبكة العلاقات الاجتماعية القائمة من أجل العودة إلى أصولهم سيكون أقرب ما يكون إلى نكبة ثانية. وهكذا، عندما سُئِل ناجي عودة، المدير السابق للفنيق، عما إذا كان بناء المركز هو شكل من أشكال التوطين في المخيم، أجاب: “أنا مستعد لهدمه والعودة إلى دياري، أو حتى أفضل، أريد إعادة بناء الفنيق في قريتي الأصلية”. الفنيق هو جسر يربط بين الوطن والمنفى. وهو مثال على كيفية تمكن اللاجئين في الدهيشة من بناء هياكل جمعية دون تقويض الحالة الاستثنائية للمخيم أو حالة المنفى أو حق العودة.
الجزء الثالث
حُجج \ تعليل التسجيل
حتى يتم تسجيل أي موقع في قائمة التراث العالمي يجب أن يكون للموقع قيم عالمية بارزة، يتم تعريفها على أنها ” أهمية ثقافية و/ أو طبيعية استثنائية جداً بحيث تتجاوز الحدود الوطنية وتكون ذات أهمية مشتركة للأجيال الحاضرة والمستقبلية للإنسانية جمعاء” ـ المبادئ التوجيهية لليونسكو
تعتبر اللجنة أن الموقع ذا قيمة عالمية بارزة إذا استوفى أحد المعايير التالية أو أكثر:
الأول. تُحفة: تمثل تحفة من عبقرية الإبداع البشري.
الثاني. تأثيرات: يعرض تبادلاً هاماً للقيم الإنسانية خلال فترة زمنية أو داخل منطقة ثقافية في العالم، أو التطورات في الهندسة المعمارية أو التكنولوجيا، أو الفنون الصرحية، أو تخطيط المدن، أو تصميم المناظر الطبيعية؛
الثالث. بُرهان: يحمل شهادة فريدة أو على الأقل استثنائية عن تقاليد ثقافية أو حضارة قائمة أو اختفت؛
الرابع. نمطية: أن يكون مثالاً بارزاً لنمط بناء معماري أو تكنولوجي أو مشهد طبيعي يمثل مرحلة/ مراحل مهمة في التاريخ البشري؛
الخامس. استخدام الأراضي: أن يكون مثالاً بارزاً على وجود تجمعات بشرية تقليدية أو استخدام أراضي أو استخدامات بحرية تمثل ثقافة/ ثقافات أو تفاعلاً بشرياً مع البيئة لاسيما عندما أصبحت ضعيفة تحت تأثير تغيرات لا رجعة فيها؛
السادس. ذات صلة: أن تكون مرتبطة بشكل مباشر أو ملموس بالأحداث أو التقاليد الحياتية، بالأفكار أو المعتقدات، بالأعمال الفنية والأدبية ذات أهمية عالمية بارزة؛
١.٣. أ نبذة مختصرة
تم ترشيح مخيم الدهيشة للاجئين وُفق المعيارين الرابع والسادس.
الرابع. النمط البنائي لمخيم الدهيشة يجسد ذكرى النكبة، أطول وأكبر تهجير قائم في العالم حتى اليوم، وفي نفس الوقت يعبر عن حيز استثنائي اجتماعياً وسياسياً.
السادس. يرتبط مخيم الدهيشة للاجئين بإيمان استثنائي بحق العودة الذي ألهم كلاً من اللاجئين وغير اللاجئين من جميع أنحاء العالم للنضال من أجل العدالة والمساواة.
(١.٣. ب المعايير التي تم بموجبها كتابة المُقترح (وتعليل التسجيل وفق هذه المعايير
الرابع. نمطية
النكبة هي حالة غير منتهية وحدث مستمر من النزوح. مخيم الدهيشة للاجئين يمثل برهاناً مادياً وتعبيراً ملموساً عن معاناة الملايين من الفلسطينيين. لا تزال مخيمات اللاجئين الفلسطينيين قضية أساسية تحول دون السلام بين الدول والثقافات والأديان في المنطقة. المخيم بحد ذاته يجسد جريمة ومسألة تدعو إلى العدالة واستعادة الأراضي وتغييراً في علاقات القوة. في هذه اللحظة التاريخية حيث يوجد ستين مليون لاجئ حول العالم يتنقلون بهويات تحددت بإقصائهم عن الدولة، يُقدم مخيم الدهيشة بعداً تاريخياً لحالة معاصرة من اللجوء وثقافة المنفى.
استمرار الاستثناء القانوني في مخيم الدهيشة أدى إلى خلق حالة مدنية فريدة. المخيم ليس تشكيلاً عابراً وليس مدينة دائمة أيضاً. وَضع اللاجئون الذين أُجبروا على العيش قصراً في( (حالة الشتات )) هذه الحالة المعلقة أنظمة متميزة للإدارة المدنية خارجة عن مؤسسات البلديات ومنظومة الدولة. يتواجد المخيم في حالة من الفراغ القانوني (الضياع) فيما يخص فئات قانونية أساسية مثل القطاعين العام والخاص فهي غائبة ولا يمكن تواجدها. على الرغم من أن اللاجئين يبنون منازلهم ويعيشون فيها لأجيال، إلا أنهم لا يستطيعون امتلاكها أو حتى الأرض تحتها. وقد أدى ذلك إلى تطور شكل استثنائي للحياة الجمعية بما يسمى المشاع). المشاع إصطلاحاً، هو شكل الحياة التي تواجدت خلال فترة الحكم العثماني في ظل ظروف لم يمتلك فيها الشعب أراضي ولكن لهم حق الاستخدام والزراعة معاً).
يتبع سكان المخيم نظاماً ضمنياً من العمليات غير الرسمية والمفاوضات بين الأفراد لاتخاذ القرارات المتعلقة بالمشاكل الفردية والجماعية. هذه الوسائل المنظمة ذاتياً لإدارة النزاعات وحلها لم تنشأ تلقائياً بالخيار، بل في غياب الوسائل الرسمية كردة فعل لعقود من العنف العسكري وعنف الشرطة. أدى النقاش الداخلي المستمر بخصوص بناء منازل جديدة أو توسيع حيز الملكية أو التعدي على الأزِقة والمسارات وحتى إغلاق الشوارع للاحتفالات وما إلى ذلك دوراً كبيراً في تشكيل المخيم.
يقسم السكان المخيم إلى أحياء مختلفة تباعاً لأسماء مواطنهم الأصلية لحفظها: زكريا، رأس أبو عمار، الولجة، بيت جبرين، بيت عطاب وغيرها. هناك قيمة كبيرة لرأس المال الاجتماعي داخل المخيم. مع مرور الوقت أصبح هناك احترام كبير لقواعد وعادات ساعدت في التعامل مع الشدائد مثل المشاركة الجمعية (العونة) والعلاقات الاجتماعية بين العائلات. ظهرت علاقات من الدعم المتبادل مثل “شبكة الحماية الاقتصادية”التي أنشأتها العائلات النازحة من قرية زكريا، حيث تدفع بأنتظام مبلغ معين من المال لصندوق دعم مشترك يمكن الحصول عليه للمساعدة في تحصيل دراسات عليا.
السادس. ذات صلة
مخيم الدهيشة لا يمثل فقط قوة الملايين ممن قاوموا الإبادة الجماعية والمحو التاريخي من خلال إيمانهم الثابت بحق العودة، ولكنهُ أيضاً مكان نستطيع من خلالهِ استيعاب مفهوم حق العودة بأنه ضرورة المطالبة بحرية الحركة وحق تقرير المصير. يضطر اللاجئون إلى التعريف بأنفسهم إما بقريتهم الأصلية أو بمكان المنفى. ولكن كيف يمكن للمرء أن يسأل لاجئة شابة وُلدت في مخيم في لبنان إن كان انتمائُها فلسطينياً أكثر منه لبنانياً؟ الإيمان بحق العودة يفتح مجالاً سياسياً مختلفاً يسمح للاجئين بأن يكونوا متعددي الجنسيات: فلسطيني لبناني؛ فلسطيني أردني؛ فلسطيني سوري؛ وفلسطيني… الأمل في العودة هو نوع من التعايش المدني الذي لا يقوم على الانقسام العرقي، الثقافي، أو الديني، بل على العكس حيث يشمل جميع بلدان المنفى التي يعيش فيها الفلسطينيون.
مخيمات اللاجئين الفلسطينيين هي الحيز الوحيد الذي يمكننا في البدء بتخيل وممارسة مجتمع سياسي بعيداً عن فكرة الدولة القومية. مخيمات اللاجئين هي بحكم طبيعتها مساحات استثنائية، تشكلت خارج سيادة الدولة. منذ نشأتها عامي 1949 و1967، استُبعِدت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين مباشرة مع إنشاء الحدود الوطنية. وبما أن القيمة العالمية الاستثنائية لممتلكات التراث العالمي تعتمد على قُدرتِها في “تجاوز الحدود الوطنية”، فإن مخيم الدهيشة يتجاوز هذه الحدود من خلال عيش واقع فيه انعدام للجنسية ولجوء ومنفى.
١.٣. د بيان النزاهة
تظهر نزاهة مخيم الدهيشة بشكل جلي ثابت وعازم من الرفض الجماعي. منذ البداية، مارست العديد من الجهات الفاعلة سلطتهم للحفاظ على المخيم كما هو. وهكذا أصبح المخيم ساحة معركة، حيث أن كل تغيير من فتح شباك أو تغيير سطح كان يخدم كتصريح سياسي يتمحور حول حق العودة. تم الحفاظ على نزاهة المخيم عن طريق تحولاته ومعارضته المستمرة للتطبيع ومقاومة التوطين وليس عن طريق تجميد تطوره. النسيج المجتمعي في مخيم الدهيشة يستمد قوته من رفضه للاندماج في الحياة المدنية لمدينة بيت لحم. لذلك فإن المخيم هو البناء المعماري للمنفى؛ واقعه مزدوج. وجود مخيم الدهيشة هو الارتباط المادي مع أماكن أخرى: الموطن الأصلي.
١.٣. ه بيان الأصالة
للمخيم وعائلات الست والأربعين قرية التي تم نقلهم منها أصلٌ لا جدلَ فيه في النكبة عام 1948. كان النسيج الحضري الأصلي للمخيم شبيه بالنسيج الشبكي لمعسكرات الجيش وتكيفها مع التضاريس المحيطة. تُرك سكان الخيم لتحديد تطور بيئتهم الحضرية وفقاً للمعايير والقيم التي شكلوها بأنفسهم دون أي تدخل من البلديات وحكومة الدولة. مع مرور الوقت تم تعديل النسيج الحضري، تم التنازع عليه وتقليصه وفقاً لحياة السكان. وفي سياق التكيف مع الظروف المدنية، وضعت أنظمة فريدة للإدارة المدنية للحفاظ على عناصر الثقافة الريفية التي جلبها السكان معهم.
وضع مخيم الدهيشة هيكلية فراغية واجتماعية فريدة من نوعها لمواجهة المدينة. وهو نظام تملك متميز كلياً بحيث يملك اللاجئون الحق في العيش في منازلهم، ولكن ليس حق تملك الأرض تحتها. التكتل الحضري الكثيف في المخيم يعطيه شعوراً مماثلاً لمركز المبلدات القديمة، مع الأزقة الصغيرة والنسيج الضيق للعلاقات الاجتماعية. يمكن وصف العمارة في مخيم الدهيشة بأنها “غير جذابة”، حيث أن أي إضافة رسمية جريئة تفسر على أنها تصريح ضد حق العودة. المادة الأساسية المكونة لمخيم الدهيشة هي الطوب الاسمنتي، انخفاض تكلفة المادة وتنوعها سمح للاجئين الاستعاضة عن ملاجئ الأونروا بهياكل أكثر استدامة. بساطة الطوب تُمكن المخيم الحفاظ على شكله وتصميمه ليكون دائم ومؤقت على حد سواء. شكل مخيم الدهيشة نصف مبني، نصف خراب، حاضر دائماً للتدمير يخدم رفض التوطين وحماية حق العودة.
٢.٣ تحليل المقارنة
تحتوي مخيمات اللجوء الفلسطينية أقدم تعداد للاجئين في العالم في مركز اهتمامات العالم الدينية والثقافية والإمبريالية والجيوسياسية. من أجل مقارنة الدهيشة بمواقع أخرى، نحتاج أولاً إلى تتبع الأصول الاستعمارية لمخيم اللاجئين. ظهرت المخيمات الأولى التي أنشئت لتنظيم جماعات بأكملها لأول مرة في الأراضي التي سيطر عليها الأوروبيون بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بقصد التحصين ضد التمرد المحتمل. وأولئك الذين اعتقلهم البلجيكيون في الكونغو والإسبأن في كوبا كانوا من الشعوب الأصلية، وهي الفئة السكانية التي لم تمنحها السلطات الاستعمارية حقوق المواطنة أبداً. وعلى النقيض من ذلك، فإن السكان الذين اعتقلهم البريطانيون في جنوب أفريقيا لم يكونوا من المواطنين الأصليين بل من الأوروبيين البيض المعتقلين من سلطة استعمارية سابقة. كان المبرر الرسمي لحجز مائة وعشرين ألف بوير في المخيمات لحماية البوير الذين لم يشاركوا في الثورات القائمة. على الرغم من هذه النوايا “الخيرة”، قتل أكثر من عشرين ألف من المدنيين غير المقاتلين في المخيمات. فعلاً، إن تركيز السكان وحصرهم في مساحة صغيرة كان غالباً ما يبرر برغبة السلطة الاستعمارية في “رعاية” المعتقلين.
كشكل من أشكال الحكم، كان التصنيف الإجتماعي المكاني للمخيم شائعاً في التاريخ الاستعماري: من الاستعمار الألماني لما يعرف الآن بناميبيا ومعسكرات الاعتقال الإيطالية التي أنشئت في ليبيا إلى القرى التي بنيت في الجزائر أثناء الاحتلال الفرنسي وتلك التي في كينيا من قبل الإنجليز. ولكنه ليس حتى معسكرات الاعتقال التي بنيت خلال حرب البوير الثانية حيث يمكننا أن نلمس ما سيصبح لاحقا ظاهرة منتشرة: استخدام المخيمات للسيطرة على مواطني الدولة. أصبح اعتقال جماعات بأكملها “حل” أوروبا ليس فقط لمقاومة الاستعمار، ولكن مع الحربين العالميتين، لموجات اللاجئين وعديمي الجنسية “في الوطن”. ظهرت أول معسكرات الاعتقال الأوروبية في هولندا لـ “الترحيب” باللاجئين البلجيكيين بعد الغزو الألماني عام 1914. بعد الانتشار إلى إنجلترا وفرنسا وما بعدها، وبحلول الثلاثينيات، بدا معسكر الاعتقال على حد تعبير هانا أريندت، “البلد الوحيد الذي قدمه العالم لعديمي الجنسية”.
أنتجت المخيمات الاستعمارية نوعاً جديداً من السكان، أحدهم ينظر إليه على أنه عدائي، ويتألف من أفراد غير مرغوب فيهم وخطيرين ومثيرين للشك يحتاجون ليبقوا تحت السيطرة لمجرد أنهم ينتمون إلى قبيلة أو دين أو إثنية معينة. لمجرد بداية مرحلة تحول الشعوب إلى سكان تبدأ إمكانية الإبادة. وفي هذا السياق التاريخي، تم إنشاء الشكلين الأكثر تطرفاً من المخيمات في القرن العشرين: مصانع الموت النازية و”العبودية الجديدة” لمعسكرات العمل السوفييتي. ومع ذلك، فإن آثار المخيم لم تبقى محتجزة ضمن الحواجز والأسلاك الشائكة، بل انتشرت في المدينة. أصبحت ممارسات الحرمان من الحقوق مثل إضفاء الطابع الوطني أو إلغاء الحقوق شائعة في فرنسا بدءاً من عام 1915، في الاتحاد السوفياتي عام 1921، في بلجيكا عام 1922، في إيطاليا عام 1926، في ألمانيا ابتداءً من عام 1935. عن طريق انتشار الاستثنائية في جميع أنحاء الفضاء المجتمعي، المخيم كنموذج تجريبي للحكم أتلف العلاقة الهيكلية للمواطنين مع دولتهم سياسياً.
إن تاريخ المخيمات الفلسطينية مرتبط بشكل أساسي بهذا التاريخ الاستعماري للمخيمات. ومن بين أهم الترشيحات التي سجلت نقطة تحول في نظرة التراث العالمي بوصفه احتفالاً “بالقيم الإنسانية الإيجابية” هو ترشيح أوشويتز بيركيناو لعام 1979، الذي جاء في بيان أهميته ما يلي:
“الموقع هو المكان الرئيسي للذاكرة البشرية جمعاء للمحرقة، والسياسات العنصرية والبربرية؛ بل هو مكان لذاكرتنا الجمعية لهذا الفصل المظلم في تاريخ البشرية، ونقله إلى الأجيال الشابة، إشارة تحذير للتهديدات العديدة والعواقب المأساوية للأيديولوجيات المتطرفة والحرمان من الكرامة الإنسانية. فخلال السنوات 1942-1944 أصبح المعسكر الرئيسي للإبادة الجماعية حيث تعرض اليهود للتعذيب والقتل بسبب ما يسمى أصولهم العرقية. وبالاضافة إلى القتل الجماعي لما يزيد عن مليون يهودي من الرجال والنساء والأطفال وعشرات الالاف من الضحايا البولنديين، كان اوشويتز أيضا معسكرًا للقتل العرقي للالاف من الروما والسنتي وسجناء من جنسيات أوروبية متعددة”. قبلت اللجنة ترشيح أوشويتز بيركيناو فقط على أساس أنه “سيحد” ترشيح “مواقع مماثلة” في المستقبل. بغض النظر عن النية الكامنة وراء هذه القيود، تم تحديد السابقة: ستكون المواقع (المكملة للحدث) \ التصالحية قليلة العدد، وستعزوها اللجنة إلى حدث فردي (بدلاً من معاملتها كترشيح متسلسل).
وبالمثل، وصفت جزيرة غوريه بأنها: “شهادة استثنائية على واحدة من أكبر المآسي في تاريخ المجتمعات البشرية: تجارة الرقيق. تقع جزيرة غوريه على ساحل السنغال، مقابل داكار. من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر، كان أكبر مركز لتجارة الرقيق على الساحل الأفريقي. حكمت بالتوالي من البرتغال وهولندا والإنجليز وفرنسا، وتتصف هندستها المعمارية بالتناقض بين الأحياء القاتمة للرقيق والمنازل الأنيقة لتجار الرقيق. ولا تزال لليوم تشكل تذكيراً للاستغلال البشري وملاذاً لتسوية الخلافات”.
في كلتا الحالتين، التي تم ترشيحهم تحت المعيار السادس كـ”أدلة “مجتمعية،” التراث العالمي يصبح وسيلة للتعامل مع أخطر الجرائم والأحداث في العالم. كل من أوشويتز بيركيناو وغوريه هم بمثابة مقارنات مثيرة للاهتمام لمخيم الدهيشة. مثل كلتا الحالتين، فإن الدهيشة هي موقع جريمة، إلا أن وقت المصالحة والاحتفال بالذكرى لم يصل بعد. ولذلك فمن المهم التركيز على البعد الثقافي للترشيح، ثقافة المنفى.
يحتوي مخيم الدهيشة أيضاً على التعبير المادي وغير المادي لفعل المقاومة، مثل موقع لو مورن في موريشيوس، وهي: “شهادة استثنائية على الهروب أو مقاومة العبودية حيث تم استخدام الجبل كقلعة تأوي من هرب من العبيد، مع الأدلة المادية والشفوية لدعم هذا الاستخدام. إن الهيئة الدراماتيكية للجبال والطبيعة البطولية للمقاومة التي تؤويها وطول عمر التقاليد الشفوية المرتبطة بالمارون جعلت لو مورن رمزاً لمعركة العبيد من أجل الحرية ومعاناتهم وتضحياتهم”.
مواقع الإدانة الأسترالية “توضح مرحلة نشطة في احتلال الأراضي المستعمرة على حساب الشعوب الأصلية، وعملية إنشاء سكان مستعمرين من أصل أوروبي من خلال جدلية العقاب والنقل تليها العمل الجبري وإعادة التأهيل الاجتماعي إلى نهاية مطاف الإدماج الاجتماعي للمجرمين كمستوطنين”. كل من الدهيشة ومواقع الإدانة الأسترالية هي تشكيلات معمارية توضح النزوح القسري والسجن. ومع ذلك، فهي ليست مرشحة للثقافة التي نشأت داخلها، بدلا من ذلك فهي مرشحة لـ”الظروف المعيشية” والمعرض المعماري لتطور استراتيجيات العقاب على النطاق العالمي. بينما يخدم كلاهما غرضاً مباشراً للنظام الاستعماري الذي يحاول التوسع، فإن آلياتهما الإنتاجية تختلف. في مخيم الدهيشة، تمت إزالة الناس لإفساح المجال للجهاز الاستعماري، في حين تم زرع الناس في مواقع الإدانة لتلبية احتياجاتهم. عند وضعهما جانباً إلى جنب يشكلان معاً كلا الوجهين للعملة الاستعمارية الاستيطانية: أصبح المحكومين البريطانيين مستوطنين، وأصبح الفلسطينيون لاجئين.
وفيما يتعلق بالمعيار الرابع باعتباره “نموذجاً لنوع من المبأني أو تشكيلاً معمارياً أو تكنولوجياً أو منظراً طبيعياً يوضح مرحلة (مراحل) هامة في تاريخ البشرية”، فإن شكل مخيم الدهيشة الحضري وما يرتبط به من مدنية يتردد صداه مع مدينة البندقية. وفقاً لتصريحها عن القيمة العالمية البارزة، ترجع أصول البندقية إلى “القرن الخامس عندما هرب سكان البندقية من الغارات البربرية، ووجدوا ملجأ على الجزر الرملية من تورسيلو، جيسولو ومالاموكو. هذه المستوطنات المؤقتة أصبحت تدريجياً دائمة والملجأ الأولي للفلاحين والصيادين الذين سكنوا الأرض ليصبحوا قوة بحرية”. وصفت البندقية أيضا بأنها” سلسلة لا تضاهى من الأبنية المعمارية … وتقدم نمطاً كاملاً من عمارة القرون الوسطى، الذي تتفق قيمة النموذج مع الطابع المميز للسياق الحضري التي يجب أن يتكيف مع المتطلبات الموقع الخاصة”. النسيج الحضري للدهيشة يحتوي على أقدم الآثار القائمة للجوء المعاصر ويمثل المدنية الراديكالية التي ظهرت من خلال سنوات من الاستثناء السياسي. وهو تعبير عن إبداع ومقاومة الملايين من النساء والرجال للظروف السياسية الفريدة للموقع.
الجزء الرابع
الحالة الراهنة للحفظ والعوامل المؤثرة على الموقع
٤.أ الحالة الراهنة للحفظ
حق العودة هو حق إنساني معترف به عالمياً لجميع الأشخاص. أُدرج لأول مرة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 بوصفه المادة 13 (2) التي تَنُص على أنه “لكل شخص الحق في مغادرة أي بلد، بما في ذلِك بلده، والعودة إلى بلده”. وقد أُدرج حق العودة لأول مرة في نطاق القانون الدولي عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 ديسمبر / كانون الأول 1948 القرار 194 الذي ينص على أنه “ينبغي السماح للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش في سلام مع جيرانهم بأن يفعلوا ذلك في أقرب وقت ممكن عملياً”. وقد أُعيدَ تأكيد هذا الحق غَير القابل للتصرف منذُ ذلك الحين في أكثر من مائة قرار من قرارات الأُمَم المتحِدة.
على الرغم بأنهُ تم الاعتراف قانونياً بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، فقد تم تأجيلُه لسبعة عقود تقريباً. يجب تحدي هذا الوضع الراهن حتى يتم تحقيق حق العودة في النهاية. وعلَينا أيضاً أن نُفَكر بالمستقبل بشكلٍ واقعي أكثر وأن نُسقِط إنعكاسات أكثر واقعية، وأن نتَصور ماذا سَيحدُث إذا ما تم تحقيق حق العودة. ماذا سيحدث للمخيمات؟ هل سيتم تدميرها والتخلي عنها؟ هل ستظل مأهولة بالسكان أم سيتم إعادة استخدامها لأغراضٍ أُخرى؟
“المنفى يَعرف أنه في عالم العلمانية المشروط بالمتغيرات، المنازل \ الوطن دائماً مؤقتة. الحدود والحواجز التي تحتوينا ضمن حدود الأمان في الأراضي المألوفة، يُمكن أن تصبح سجونا، وكثيراً ما يُدافع عنها بمنطق العقل أو الضرورة. المنفى يتجاوز الحدود، يكسر حواجز الفكر والتجربة. “[هامش إدوارد سعيد،”تأملات في المنفى” في تأملات في المنفى ومقالات أُخرى (كامبريدج: مطبعة جامعة هارفارد، 2000)، 185.]
والمفهوم الثاني الذي يحتاج إلى زعزعة الاستقرار هو حفظ التراث. بالنسبة للبعض، حفظ التراث هو التخصص المعماري الذي يجمد الوقت، الفضاء، والثقافة؛ أحد الفروع التي تقلل من قيمة العمارة \ المبأني إلى مواضيع مذهلة للتأمل والاستهلاك. ومع ذلك، فأن الحفظ اليوم يرتبط بالفضاء المتنازع عليه الذي يتم فيه بناء وهدم الهوية والهياكل الاجتماعية. في السنوات الأخيرة، أصبح الحفظ المعماري حيزاً للمعرفة والممارسة قادراً على إعادة صياغة فهمنا للثقافة والتاريخ والجماليات. فيما يلي أربعة أمثلة لاستخدام سكان مخيم الدهيشة للمفاهيم الجذرية والسياسية لممارسة الحفظ المعماري.
الحفظ من خِلال الهدم: ثلاثة ملاجئ
https://www.dropbox.com/sh/rvyo57tr8dcbm2w/AADMjNYPs40mKcKyHMw5IdDDa?dl=0
في كانون اول من العام ٢٠١٣، وبعد عامين من البحث، وجد مشاركو مشروع “جامعة في المخيم” مساحة من الارض في مخيم الدهيشة سموها ( غرف الوكالة الثلاث ). تحتوي هذه القطعة من الارض على ثلاثة “غرف وكالة” من تلك الغرف التي بنتها وكالة الغوث في خمسينيات القرن الماضي (ثلاث غرف، حمام مشترك وخزان مياه). لم يكن احد يستخدم ذلك المكان الذي يروي حكاية المخيم وتاريخه، حيث كان للمكان بوابة مقفلة. ولكن كيف يمكن أن يكون هناك تاريخ لمكان من المفترض أن يتم تفكيكه واخفائه؟
عند هذه النقطة فهمنا أن الإقرار بوجود تاريخ للمخيم يجب ان يُحفظ، لما يملكه من قيم ثقافية واجتماعية وسياسية، كان الطريق الأفضل لمحاولة الإجابة عن سؤال: “ما هو مخيم اللاجئين اليوم؟”
لم يكن التصميم المعماري “لغرف الوكالة الثلاث” الشيء الوحيد الذي كان بحاجة للحفاظ عليه، بل أيضا الثقافة ومعاني الحياة التشاركية التي عاشها الناس عندما كانوا يقطنوا تلك المساكن. في الحقيقه، يمكننا القول بأن المخيم ككل يشكل نوع فريد من الحياة المشتركة والتي تقف في وجه الفهم الإنساني للمخيمات والذي حصر حياة المخيم واللاجئين في الإحصائياتوالأرقام
بعد دراسة ومسح المكان، وبعد أن جرت حوارات ونقاشات مع السكان المحليين، قام مشاركو برنامج جامعة في المخيم وبشكل جماعي ببدء عملية تصميم تشاركي مع جمعية دار للتخطيط المعماري والفني لعمليات الحفظ والتغيير التي من الممكن اجراءها في تلك المساحة. مع أخذ قيمة التصميم المعماري للمكان والذي يرتكز على الذاكرة الجمعية للسكان بعين الاعتبار، تم اختيار منهجية عمل غير تدخلية تضمن حفظ المكان كما انها تؤدي إلى ايجاد استخدامات جديدة له دون المساس بشكله المعماري.
وقد ظهر المشروع وكأنه نوع من الإطار الداكن الذي يحيط بتلك المبأني التاريخية، فهو عبارة عن منصة من الإسمنت المسلح بسماكة خمسة عشر سنتيمترا ، صممت المنصة لتبدو معلقة ولكنها ترتكز على قاعدة من الحصى المرصوص. وكان القصد من هذا ترك الملاجئ القائمة والحمام المشترك وخزان المياه وأشجار الزيتون السليمة كعلامة على احترام الماضي في هذه البداية الجديدة. كان للمنصة التي مساحتها مائة وعشرين مترا مربعا القدرة على استضافة أنشطة أكثر من مائة شخص. وكانت المنصة السوداء وكأنها خشبة مسرح معدة لاستضافة التجمعات والحفلات الموسيقية والطقوس الجماعية
أمضى مشاركو جامعة في المخيم أشهر عدة في الحوار مع الجيران ومع مالك الموقع. لم يناقشوا ماهية المشروع فقط بل انهم قاموا بالعديد من الأنشطة والأمسيات وعرض الأفلام. كان اشراك الجيران في المشروع امرا بالغ الاهمية بالنسبة للمشاركين. ومن هنا تم توقيع اتفاقية ما بين اللجنة الشعبية في مخيم الدهيشة ومالك قطعة الارض.
بدأت عملية البناء بحفر الاساسات، ثم بعد مرور ١٠ أيام قام أحد افراد العائلة التي تملك الموقع بوقف العمال عن العمل، ثم امضت كل من العائلة واللجنة الشعبية وقيادات من المخيم عدة اسابيع في محاولة ايجاد حل. على اي حال، قال احد افراد العائلة بأنه وبغض النظر عن الاتفاقية التي وقعت حول استخدام المكان على مدار العامين المقبلين، فان العائلة قررت بيع الأرض، معترفة بأن الاهتمام أصبح كبيرا بذلك المكان المهجور. ومن ثم وبين ليلة وضحاها تم تدمير غرف الوكالة الثلاث.
لا حاجة لنا للقول بأن ذلك التصرف كان محبطا للغاية لكافة افراد مجتمع اللاجئين الذين شهدوا تدمير ذلك الموقع التاريخي بالاضافة إلى انه كان احباطا عظيما للشباب في جامعة في المخيم الذين بدورهم خسروا فرصة لتجسيد خطابهم الجديد حول ما يكون المخيم اليوم.
يخبرنا ذلك الحدث بأن نوعا من الوعي العام حول أهمية الحفاظ على المخيم وتاريخه كان قد بدء في التشكل
لقد جلب ذلك الحدث فهم جديد للمخيم كمكان مليئ بالقصص التي يمكن روايتها من خلال النسيج العمراني للمخيم. تلك القصص التي تم التكتم عليها خوفا من هواجس التوطين
الحفظ من خِلال الانعكاس \ الارتداد \ الرجوع للخلف: مسارات العودة
بدأ مفهوم اعتبار “الطُرق أو المسارات الثقافية” جزءاً من التُراث الثقافي بالظُهور في بداية التسعينيات. تعبر المسارات التراثية عن “نقاط القوة والعناصر الملموسة، فهي شهادة على أهمية الطريق نفسها، وتقدِم إطاراً متميزاً حيث يدور فيه تفاهم متبادل، ومنهجٌ جمعي إلى التاريخ وثقافة السلام”. وبهذا المعنى، قمنا بإعادة أداء مسار النُزوح الذي سلكهُ سكان قرية زكريا إلى مخيم الدهيشة عام 1948.
يقوم بزيارة مخيم الدهيشة يومياً المئات من النُشطاء الذين يستطيعون مع جوازات سفرهم الدولية عبور الحدود الإقليمية التي لا يستطيع الفلسطينيون التنقل عبرها. يَفترض إنشاء طريق العودة هذا أيضاً احتمال حدوث فعل عكسي في التهجير ويخدم كترياق لتسويق المواقع التراثية.
الحفظ من خِلال المقاومة : بيت مراد الجديد
https://www.dropbox.com/s/dcir0x0auoojjek/04.jpg?dl=0
https://www.dropbox.com/s/gm5rwdwk79rojme/construction%20plan.pdf?dl=0
https://www.dropbox.com/s/aq3yud16n1xns83/murad.jpg?dl=0
مُراد هو لاجئ من الجيل الثالث للنكبة وأحد أفراد عائلة عودة. قبل عامين أنهى درجة الماجستير في الولايات المتحدة، وقرر العودة إلى الدهيشة، حيث ولد وترعرع. مثله مثل كثيرين من قبله، أُجبر على التكيف مع حياة المنفى تحت الاحتلال. فكر في العيش خارج المخيم، لكنه أدرك “سأشعر بالضياع… أنا فقط أتمنى أن أتمكن من بناء بيتي في قريتي الأصلية”. كما الجيلين من قبله، بدأ مراد بالتفكير في البناء فوق منزل العائلة في المخيم. وبعد مشاركة مخاوفه مع جمعية دار حول البناء فوق المنزل الضعيف الأسس وبعد التشاور مع مهندس أساسات، وجدنا أن المنزل يمكن أن يدعم طابقاً آخر، حيث طلب مراد من جمعية دار تصميمه. أراد أن يكون المنزل مستعداً لزواجه من مايا، وهي أمريكية يهودية من مينيابوليس. مع القليل من المال تم بناء التوسع. تصميم منزل مراد ومايا كان حفظاً لقيم الأسرة التي واجهت ظروفاً لا تطاق لأجيال.
الحفظ من خلال إعادة الإعمار: الخيمة الإسمنتية
أسفر الاستثناء السياسي الطويل الأمد لمخيمات اللاجئين عن خلق حالة مدنية واجتماعية خاصة. وعادة ما تتدخل الهندسة المعمارية في هذا السياق كحل تقني فقط، مثل تصميم خيام ذكية أو هياكل متنقلة، ونادراً ما تستخدم قوتها في المعالجة والتعبير عن المشاكل السياسية والاجتماعية. في احدى الحوارات مع المشاركين في برنامج جامعة في مخيم، برزت حاجة ملحة لتجسيد المؤقت الدائم وإعطاء شكل معماري لمخيم اللاجئين.
يتبادر في أذهاننا حين نفكر في مخيمات اللآجئين صورة مجموعة خيام التي شكلت هذه المخيمات لسنوات طويلة، ولكننا وبعد مرور أكثر من ستين عاما على اقامتها نجدها مبنية بأشكال ومن مواد تختلف تمام عن مكونات الخيمة. في بداية الأمر، تم تدعيم الخيمة بجدران تم لاحقا استبدالها بغرف إسمنتية شيدتها وكالة غوث وتشغيل اللآجئين إلى أن أصبحت منازل إسمنتية حولت المخيمات إلى مناظق حضرية مكتظة وثابتة.
يحاول المشروع أن يعيش المفارقة التي تحوم حول كيفية حفظ الفكرة الأصلية للخيمة كقيمة تاريخية رمزية. ولأن الخيام كانت تصنع من مواد تتحل بفعل الزمن فإن هذه الهياكل ببساطة لم تعد موجودة اليوم، لذلك فإن إعادة صنع تلك الخيمة من الإسمنت هي محاولة لحفظ الثقافة والأهمية الرمزية للنموذج الأصلي للخيمة في رواية قصة النكبة ولكي يتم في نفس الوقت دمج الوضع السياسي المحلي للمنفى. في حزيران 2015 تم افتتاح “الخيمة الإسمنتية” كمكان للتجمع والتعلم الجماعي في حديقة جميعة الفينيق الخيرية. الخيمة الإسمنتية هي هجين ما بين خيمة مصنوعة من قماش ومنزل اسمنتي، ما بين المؤقت والدائم، ما بين اللين والصلب، ما بين الحركة والجمود.
إن إجبار الناس على العيش في ظروف مأساوية لا يقربهم من العودة. أن تلغي حقهم في العيش بكرامة هو في الحقيقة نوع اخر من العنف الواقع على اغلب اللاجئين الفلسطينيين. هنا علينا التساؤل بجدية في كون حق العودة يجب ان يلغي وجود المخيم أو يدعو إلى إزالته. بعبارة أخرى، كيف يمكننا صياغة حق العودة بناءا على حاضر المخيم؟ ان الاقرار بأن المخيم هو موقع تراثي في حقيقة الامر تشكل طريقة مثلى لتجنب الوقوع في فخ العيش في الماضي وكذلك ايضا الافراط في تسليط الضوء على المستقبل مع الاستمرار في انكار الحاضر بشكل شبه تام. عوضا عن ذلك، فان وجهة النظر تلك تتيح المجال بأن يكون المخيم موضوعا سياسيا تاريخيا للحاضر وكما انها تتيح امكانية النظر إلى الانجازات التي تمت في الحاضر ليس فقط كتجسيد لحق العودة ولكن كخطوة نحوها. إن الحديث عن تاريخ المخيم في الحقيقة يشكل طريقة للبدء في الاعتراف بالوضع الحالي وكذلك يؤدي إلى صياغة حق العودة بشكل فعلي.